كُلُّ مَنْ فَتَحَ بَابَ الْحِوَارِ، دَخَلَ بَارِيسَ مِنْ أَوْسَعِ الْأَبْوَابِ
حِينَ نَعْرِفُ بَارِيسَ، نَعْرِفُ ذَوَاتِنَا عَلَى حَقِيقَتِهَا، نَكْتَشِفُ مَذَاقَنَا، وَنَفْهَمُ ثَقَافَتَنَا وَنُبْصِرُ تَارِيخَنَا بِوُضُوحٍ أَكْبَرَ.
غَيْرَ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ تَظَلُّ قَاصِرَةً دُونَ مُعَلِّمٍ أَوْ مُرْشِدٍ يُسَاعِدُنَا عَلَى اسْتِيعَابِهَا،
فَالْأَفْكَارُ وَالْمَعَارِفُ أَعْمَقُ وَأَكْثَرُ تَعْقِيدًا مِنْ أَنْ نَسْتَوْعِبَهَا وَحْدَنَا،
وَبَارِيسُ أَعْمَقُ مِنْ أَنْ نَقْرَأَهَا دُونَ مَنْ يُحَوِّلُ لَنَا حِجَارَتَهَا إِلَى قِصَصٍ حَيَّةٍ،
وَيَجْعَلُ لَنَا التَّمَاثِيلَ وَالْمَتَاحِفَ وَاللَّوْحَاتِ حِكَايَاتٍ نَرَاهَا بِالْقَلْبِ وَنَفْهَمُهَا بِالْعَقْلِ.
هُنَا يَأْتِي دَوْرُ الْمُرْشِدِ، الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ رُوحِ الْمَدِينَةِ وَالْمَعْرِفَةِ،
فَيُحَوِّلُ كُلَّ مَعْلُومَةٍ إِلَى حِكَايَةٍ حَيَّةٍ، وَكُلَّ فِكْرَةٍ إِلَى حِوَارٍ حَقِيقِيٍّ.
وَهَذَا هُوَ دَوْرِي أَنَا فِي بَارِيسَ.
مَنْ أَنَا؟

أَنَا سُهَيْل
لِمَاذَا أَنَا مُرْشِدٌ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي بَارِيسَ؟
هُنَاكَ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ تَدْفَعُنِي لِأَكُونَ مُرْشِدًا بِلُغَةِ الضَّادِ فِي بَارِيسَ.
أَوَّلُهَا، أَنْ أَفْتَحَ أَبْوَابَ هَذِهِ الْمَدِينَةِ الْعَرِيقَةِ، بِمَتَاحِفِهَا، وَتَارِيخِهَا الْفَنِّيِّ، وَآثَارِهَا، لِلْعَائِلَاتِ الَّتِي لَا يَتَحَدَّثُ أَطْفَالُهَا لُغَةً سِوَى الْعَرَبِيَّةِ، فَيَتَعَرَّفُونَ عَلَى الْعَالَمِ وَيَتَذَوَّقُونَ الْفَنَّ مِنْ خِلَالِ لُغَتِهِمُ الْأُمِّ، دُونَ حَاجِزٍ أَوْ عَائِقٍ.
وَثَانِيًا، لِأَفْتَحَ حِوَارًا ثَقَافِيًّا حَقِيقِيًّا، بَيْنَ بَارِيسَ وَالْعَالَمِ الْعَرَبِيِّ، حِوَارًا نَبْنِيهِ مَعًا عَلَى الْمَعْرِفَةِ وَفَهْمِ تَارِيخِ الْفَنِّ، لِأَنَّ الْحِوَارَ الثَّقَافِيَّ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الَّذِي يُعَلِّمُنَا فَهْمَ الْآخَرِ، خُصُوصًا فِي ظُرُوفِنَا هَذِهِ الَّتِي تَدْعُونَا لِفَهْمٍ أَعْمَقَ وَتَوَاصُلٍ أَرْقَى.
وَثَالِثًا، لِأَنَّنِي أُؤْمِنُ كُلَّ الْإِيمَانِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى تُرَاثِنَا الْغَنِيِّ وَحَضَارَةِ أَجْدَادِنَا، أَنَّنَا قَادِرُونَ عَلَى إِحْيَاءِ هَذَا الْحِوَارِ كَمَا فَعَلُوا هُمْ مِنْ قَبْلُنَا، حِينَ نَاقَشُوا وَحَاوَرُوا وَأَبْدَعُوا، وَصَارُوا جُسُورًا بَيْنَ الثَّقَافَاتِ وَالْحَضَارَاتِ.
هَذَا هُوَ دَوْرِي، وَهَذِهِ هِيَ الرِّسَالَةُ الَّتِي أَحْمِلُهَا، وَهَذَا هُوَ الْحِوَارُ الَّذِي أَحْلُمُ بِفَتْحِهِ مَعَكُمْ فِي بَارِيسَ.
بِالْحِوَارِ وَالتَّأَمُّلِ تَرْتَقِي الْعُقُولُ
وَبِالثَّقَافَةِ تَصِيرُ بَارِيسُ أَجْمَلَ مَا يَكُونُ
أَنَا سُهَيْلٌ، فَرَنْسِيُّ الْهُوِيَّةِ، أَبٌ يَسْكُنُنِي حُلْمُ أَنْ أُعَرِّفَ أَبْنَاءَنَا جَمَالَ الْعَالَمِ. جِئْتُ مِنْ تُونِسَ حَامِلًا فِي رُوحِي حُبَّ الْفَنِّ وَلَهْفَةَ التَّارِيخِ، مُتَجَوِّلٌ بَيْنَ ثَقَافَاتِ الْعَالَمِ دُونَ حَاجِزٍ أَوْ عَائِقٍ. مُحِبٌّ لِلْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى، أَتَنَفَّسُ الْعَرَبِيَّةَ الْفُصْحَى، وَأَتَحَدَّثُ الْفَرَنْسِيَّةَ وَالْإِنْجِلِيزِيَّةَ بِلِسَانٍ طليق وَقَلْبٍ عَاشِقٍ لِلْجَمَالِ.



كَانَتْ بَارِيسُ بَابًا فَتَحَتْهُ لِي الْأَقْدَارُ عَلَى مِصْرَاعَيْهِ، فَدَخَلْتُهُ بِقَلْبٍ ظَامِئٍ لِكُلِّ مَا هُوَ بَدِيعٌ، ثُمَّ مَا لَبِثْتُ أَنْ عَشِقْتُ تُرَاثَهَا وَتَشَرَّبْتُ أَسْرَارَ مَتَاحِفِهَا الَّتِي أَثْرَتْ رُوحِي وَأَشْعَلَتْ فُضُولِي، حَتَّى أَصْبَحْتُ وَكَأَنِّي وُلِدْتُ بَيْنَ لَوْحَاتِ اللُّوفْرِ وَجُدْرَانِهِ، وَتَرَبَّيْتُ فِي ظِلِّ حَضَارَتِهِ الْمُضِيئَةِ. فَحِينَ نَعْرِفُ بَارِيسَ، نَعْرِفُ ذَوَاتِنَا عَلَى حَقِيقَتِهَا، نَكْتَشِفُ مَذَاقَنَا، وَنَفْهَمُ ثَقَافَتَنَا وَنُبْصِرُ تَارِيخَنَا بِوُضُوحٍ أَكْبَرَ. غَيْرَ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ تَظَلُّ قَاصِرَةً دُونَ مُعَلِّمٍ أَوْ مُرْشِدٍ يُسَاعِدُنَا عَلَى اسْتِيعَابِهَا، فَالْمَعْلُومَاتُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ نَحْتَمِلَهَا وَحْدَنَا.
أَمْضَيْتُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِ سَنَوَاتٍ وَأَنَا أَنْسِجُ جَوْلَاتٍ سِيَاحِيَّةً تُحَاكِي جَمَالَ الْوَاقِعِ وَتَتَفَوَّقُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي إِطَارِ شَرِكَةٍ صَغِيرَةٍ أَسَّسْتُهَا رِفْقَةَ كَوْكَبَةٍ مِنَ الْمُرْشِدِينَ الْفَرَنْسِيِّينَ الْعَارِفِينَ الْعَاشِقِينَ، الَّذِينَ يَتَحَدَّثُونَ الْإِنْجِلِيزِيَّةَ بِطَلَاقَةٍ. فَالْبَابُ الْحَقِيقِيُّ لِدُخُولِ بَارِيسَ هُوَ الثَّقَافَةُ؛ فَهِيَ الْمِفْتَاحُ الَّذِي يَفْتَحُ أَبْوَابَ الْمَدِينَةِ، وَالْجِسْرُ الَّذِي يَرْبُطُ بَيْنَ شَوَارِعِهَا وَرُوحِهَا، وَهِيَ النَّافِذَةُ الَّتِي نُطِلُّ مِنْ خِلَالِهَا عَلَى مَعَالِمِهَا الْخَالِدَةِ وَحِكَايَاتِهَا الَّتِي لَا تَنْتَهِي. فَمِنْ دُونِ الثَّقَافَةِ تَصِيرُ بَارِيسُ مُجَرَّدَ شَوَارِعَ وَأَحْجَارٍ بِلَا رُوحٍ، وَمِنْ دُونِ مُرْشِدٍ يَقُودُكَ بَيْنَ أَسْرَارِهَا تَبْقَى هَذِهِ الْمَدِينَةُ كِتَابًا مُغْلَقًا يَصْعُبُ قِرَاءَتُهُ. مَعِي، أَفْتَحُ لَكَ هَذَا الْكِتَابَ لِتَقْرَأَ بَارِيسَ بِقَلْبِكَ قَبْلَ عَيْنَيْكَ.
وَبَيْنَ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ أَرَى نَفْسِي جِسْرًا لِلِقَاءِ الْحَضَارَاتِ، فَفِي دَاخِلِي إِرْثُ ثَقَافَتِي الْعَرَبِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، الَّذِي أُحِبُّ أَنْ أُحَاوِرَهُ وَأُحَاوِرَ بِهِ كُلَّ ثَقَافَاتِ الدُّنْيَا. فَفِي زَمَنِنَا هَذَا، الْمُثْقَلِ بِالْقَلَقِ وَالْأَسْئِلَةِ، أَرَى أَنَّ التَّارِيخَ وَالْفَنَّ هُمَا فُرْصَتُنَا الْكُبْرَى لِنُدْرِكَ كَيْفَ تَتَحَاوَرُ الْحَضَارَاتُ وَتَتَعَانَقُ الثَّقَافَاتُ، فَتُولَدُ مِنْ هَذَا اللِّقَاءِ حَضَارَةٌ أَغْنَى وَرُوحٌ أَعْمَقُ.
هَذِهِ الرِّسَالَةُ هِيَ مَا أَسْعَى إِلَى تَجْسِيدِهِ فِي جَوْلَاتٍ تَفْتَحُ عُيُونَ الزَّائِرِينَ عَلَى كُنُوزٍ دَفِينَةٍ دَاخِلَ اللُّوفْرِ وَخَارِجَهُ، وَأَخُصُّ الْأَجْيَالَ الشَّابَّةَ بِجَوْلَاتٍ فِيهَا مُتْعَةُ الْبَحْثِ عَنِ الْكَنْزِ، لِأُقَرِّبَ إِلَيْهِمُ التُّرَاثَ الْفَرَنْسِيَّ بِكُلِّ مَا فِيهِ مِنْ عُمْقٍ وَتَعْقِيدٍ، فِي صُورَةٍ بَسِيطَةٍ وَجَمِيلَةٍ تَحْفُرُ فِي الْقَلْبِ ذِكْرَى لَا تُنْسَى.



كُنْتُ وَمَا زِلْتُ مُسْتَمِعًا حُرًّا فِي مَدْرَسَةِ اللُّوفْرِ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ عَامَيْنِ، أَغُوصُ فِي عَوَالِمِ التَّارِيخِ وَالْفَنِّ وَأَسْتَزِيدُ مِنْ أَسْرَارِ الْآثَارِ، وَالْتَحَقْتُ حَدِيثًا بِتَكْوِينٍ فِي الْمُحَافَظَةِ الْوَطَنِيَّةِ لِلْفُنُونِ وَالْمِهَنِ لِأُصْبِحَ مُرْشِدًا مُعْتَمَدًا، قَادِرًا عَلَى فَتْحِ الْأَبْوَابِ أَمَامَ عُيُونِ الزَّائِرِينَ وَقُلُوبِهِمْ.
أُقَدِّمُ لَكُمْ جَوْلَاتٍ فِي اللُّوفْرِ بِثَلَاثِ لُغَاتٍ، وَأُصَمِّمُ لَكُمْ مَسَارَاتٍ ثَقَافِيَّةً وَاجْتِمَاعِيَّةً مُبْتَكَرَةً، وَأَمْنَحُ زُوَّارِيَ الْعَرَبَ خُصُوصًا رِحْلَاتٍ حَصْرِيَّةً فِي مَجْمُوعَاتٍ صَغِيرَةٍ، تَشْتَمِلُ عَلَى مُغَامَرَاتِ «الْبَحْثِ عَنِ الْكَنْزِ» لِلْأَطْفَالِ وَالْعَائِلَاتِ، مَعَ كُتَيِّبَاتٍ وَهَدَايَا صَغِيرَةٍ تَزْرَعُ الْبَهْجَةَ فِي قُلُوبِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ.
كُلُّ مَنْ فَتَحَ بَابَ الْحِوَارِ
دَخَلَ بَارِيسَ مِنْ أَوْسَعِ الْأَبْوَابِ
حِوَارٌ دَائِمٌ
وَهَلْ بَارِيسُ بِالنِّسْبَةِ لِي إِلَّا حِوَارٌ دَائِمٌ مَعَ ثَقَافَاتِ الْعَالَمِ، أَتَعَلَّمُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ كَيْفَ أَرَى نَفْسِي؟
سُهَيْلُ إِدْرِيس (1925–2008) في روايته «الْحَيُّ اللَّاتِينِيُّ»، صَوَّرَ بَارِيسَ كَمَكَانٍ لِلْحُرِّيَّةِ وَالِاكْتِشَافِ الذَّاتِيِّ. فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ، أَقِفُ أَمَامَ الْفَنِّ فَأَجِدُنِي أُحَاوِرُ التَّارِيخَ وَالْإِنْسَانَ وَالْجَمَالَ، وَأَدْرُسُ الْآثَارَ فَأَفْهَمُ كَمْ أَنَا جُزْءٌ مِنْ قِصَّةٍ بَشَرِيَّةٍ لَا حُدُودَ لَهَا. بَارِيسُ عَلَّمَتْنِي أَنَّ تَارِيخَ الْفَنِّ لَيْسَ مُجَرَّدَ عِلْمٍ، بَلْ هُوَ بَصِيرَةٌ تَجْعَلُنِي أَكْثَرَ انْفِتَاحًا، وَأَعْمَقَ إِدْرَاكًا لِقِيمَةِ الْحِوَارِ بَيْنَ الثَّقَافَاتِ.
هَذِهِ هِيَ بَارِيسُ الَّتِي أَعْرِفُهَا، وَالَّتِي أَدْعُوكَ لِتَكْتَشِفَهَا مَعِي، لِنُحَاوِرَهَا سَوِيًّا، وَنَخُوضَ مَعًا تَجْرِبَةَ الْمَدِينَةِ.
فَهَلْ أَنْتَ جَاهِزٌ لِتَدْخُلَ هَذَا الْحِوَارَ؟